في سماء الشعر العربي المهجري، يتلألأ نجم إلياس أبو ماضي بوصفه أحد أبرز الأصوات التي عبرت عن الحنين، والفلسفة، والجمال، والحرية. شاعرٌ لم يُقم جسده في الشرق، لكنّ روحه ظلّت مشدودة إلى ضفافه، محملة بعبق أرز لبنان وهموم الإنسان العربي المغترب.
النشأة والمنفى
وُلد إليا أبو ماضي في قرية "المحيدثة" قرب مدينة بكفيا في جبل لبنان عام 1890، في بيئة تقليدية متواضعة، لم تكن مهيأة لتفجّر شاعر بحجمه. لكن ظروف الحياة، والقيود العثمانية التي ضيّقت على الحريات، دفعته إلى الهجرة مبكرًا إلى مصر، ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1912، حيث واصل مسيرته الأدبية والصحفية.
في المهجر، لم يكن الشعر ترفًا لغويًا بالنسبة إليه، بل كان نافذته على وطن بعيد، ووسيلته لفهم الذات والوجود.
فلسفة التفاؤل والحرية
تميّز أبو ماضي بفكر فلسفي عميق ممهور بالبساطة، يلمس الوجدان دون تكلف. على خلاف الشعراء الذين شُغفوا بالحزن والمآسي، انحاز إليا إلى الضوء. كتب يقول:
كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً
بهذا البيت الشهير لخّص فلسفته الحياتية التي امتدت في ديوانه "الخمائل" و"تبر وتراب" وغيرهما. لم يكن التفاؤل عنده سذاجة، بل خيارًا وجوديًا في وجه الألم. أراد من الإنسان أن ينظر إلى الحياة بعين المتأمل لا الشاكي، بعين المتفاعل لا المنعزل.
الإنسان والكون في شعره
أبو ماضي شاعر لا يُؤطره القُطر أو الزمان، بل يُخاطب الإنسان من حيث هو إنسان. يطرح أسئلته الوجودية بإلحاح: من نحن؟ من أين جئنا؟ إلى أين نمضي؟ لكنه لا يغرق في السوداوية، بل يطرح شكوكه بروح شاعر يبحث عن اليقين بالجمال والمحبة.
في قصيدته "الطلاسم"، نراه متأملاً، متسائلاً، مغلفًا تساؤلاته بعمق إنساني:
جئتُ لا أعلمُ من أينَ، ولكنّي أتيتْ ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيتْ.
هذه القصيدة، من أشهر ما كتب، تكشف براعته في نسج الأسئلة الفلسفية الكبرى بطريقة غنائية آسرة.
دوره في الأدب المهجري
كان إليا أبو ماضي أحد أعمدة الرابطة القلمية التي ضمّت أيضًا جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وقد ساهم معهم في إرساء دعائم الأدب المهجري، الذي جمع بين الأصالة العربية وروح التجديد والتفاعل مع الفكر الغربي.
أسّس مجلة "السمير" في نيويورك، والتي أصبحت منبرًا ثقافيًا هامًا، نشر من خلالها نتاجه الأدبي وساهم في رعاية أقلام المهجر.
إرث لا يغيب
توفي إليا أبو ماضي عام 1957، لكن صوته ما زال حاضرًا في الوجدان العربي. إنه صوت من اختار الجمال في زمن القبح، والضياء في زمن الظلمة. لم يكن شاعر مهجر فقط، بل شاعر إنسانية، جعل من الشعر سبيلاً للتصالح مع الحياة، لا للهروب منها.
يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.