قصة شهيد.... حكاية وطن

 قصة شهيد... حكاية وطن




«“يا أمي أنا نويت الشهادة في سيبل الله” “أنا قبلت في كتائب عز الدين القسام .. مش مهم أجاهد مع مين.. المهم النية .. نيتي أجاهد في سبيل الله وتحرير الوطن مع صحبة طيبة ولقيت الصحبة الطيبة مع إخواني في الكتائب” “الناس يا أمي تعيش عمر طويل تحاول تعيش ما عيش إلا عيش الآخرة.. أنا أحاول أخد طريق مختصرة واكسب أجر مضاعف” “نحن يا أمي ما بنرمي حالنا على الموت نحن نقاتل ونحسن القتال والله يختار منا من يشاء، لو كان الموضوع إهلاك النفس، كان ما رجع منا حدا” “الجهاد يا أمي يعني نصر أو استشهاد.. ادعي لي بواحدة منهم بس أنا بفضل الثانية” “الله يا أمي يصطفي الشهداء .. مش مين ما كان يختاره الله شهيد .. ادعي لي الله يختارني برضاك علي .. راضية عني؟” “لما أستشهد إنشاء الله راح أرجع لك محمل على الأكتاف من هذا الطريق” رنت كلمات مؤمن في أذني أمه التي كانت تقف شاردة في الشرفة تراقب الطريق، التي تضيئها انفجارات الغارات المتلاحقة. لفح هواء ليل شتاء غزة البارد وجهها وهي تهمس “18 يوم يا رب .. 18 يوم تحت رحمتك على أرضك وتحت سماك .. 18 يوم في البرد والطيارات بتقصف حواليه .. أكرمني بدفنه يا رب بس أشوفه وأدفنه بعدها.. عينك عليه يا رب تحميه .. أنا أودعتك إياه.. رجعه يبرِّد ناري قبل الفراق .. يا رب .. نوى الشهادة وصدقك يا رب .. اصدقه واجعله من الشهداء المكرمين ”»

«عادت الكهرباء تضيء الشارع بعد انقطاعها ليومين كاملين، فانطلقت تضيء التلفاز لتسمع الأخبار علها تأتي بما ينذر باقتراب انتهاء كربها الذي يصر على أن يطول.. على التلفاز كان رئيس وزراء العدو يقف بصلافته وبلاهته المعتادة، معلنا عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد، قفزت بحركة عفوية، وراحت تصرخ “الحمد لله الحمد لله” .. قضت سوزان الليل تحضر بيتها لاستقبل إبنها الأوسط شهيداً محملاً على الأكتاف. كان قلبها يهوي كلما تذكرته يجري بكامل عتاده في الطريق الذي من المفترض أن يعود منه شهيداً .. خالجها حينها شعور بأنها المرة الأخيرة التي ستراه فيها .. لطالما كان متعجلاً للرحيل ..

في آخر مرة نجا فيها من عملية اغتيال استهدفت مجموعته الفدائية، عاد للبيت بعصبية لم تكن أبداً من طباعه، كاد يبكي وهو يردد: “في شي غلط .. يا أنا مش مصفي النية أو إنت .. بتضلك تقولي أودعتك الله .. نفسي استشهد .. ادعيلي أنالها.. ادعي” رجف قلبها يومها وهي تقول بصوت دامع: “الله ينولك الي في بالك” شعرت بروحها تتمزق وهي تسترجع هذه الذكريات، وتبتلع لوعتها لعدم قدرتها على أن تلقي على ابنها نظرة وداع أخيرة مع غصة كبيرة مريرة..

حين انتهت من تحضير بيتها المتواضع لاستقبال الشهيد، صلت الفجر وجلست تراقب الهاتف، وتنتظر طلوع صباح جديد بلا شمس، وبدلاً من أن يرن الهاتف، لتسمع أخبار العثور على مؤمن، ضربت أذنها أصوات عدة صواريخ جراد وأخرى محلية الصنع تنطلق متلاحقة فصرخت منهارة “لااااااااا .. رجعت الحرب رجعت .. آه يا مؤمن آاااااااااااه”. أفاق زوجها على صوتها فوجدها تبكي، لم تستطع أن تقول له أن الأمل وُلد أثناء نومه الطويل العميق وقتل منذ ثوانٍ فقط.. وقبل أن يفهم أبو الشهيد القصة رن هاتفه النقال، رفعت رأسها وراقبته وهي تنتفض كان يحاول أن يفهم كلمات المتصل المشوشة بسبب سوء الإرسال، وحاولت أن تصغي علها تستطيع أن تسمع ما لا يستطيع هو التقاطه، فانتبهت فجأة أن هناك أصوات عالية في الشارع، فقفزت بلوعة وهي تصرخ باسم مؤمن. وتحت الشرفة كان هناك أحد رفاق الشهيد يحاول الاتصال بهم عبر الجوال ليخبرهم أنهم قد عثروا على جثة مؤمن بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من عدة مناطق منها جبل الريس حيث كان يرابط قبل استشهاده، وأنه مع عدد من رفاقه الشهداء في مستشفى الشفاء.

مرت الدقائق كالساعات، وتوافد الأهل والأقارب والأصدقاء وامتلأ البيت الصغير بمحبي مؤمن وسوزان، وهي وقفت في الشرفة تنتظر حضور مؤمن، من الطريق الذي وعدها أن يعود منه، محملاً تنظر نظرة فارغة لنهاية الطريق، الذي بدا أطول بكثير مما كان عليه، أحاطتها أخواتها وشعرت بأن توتر ملحوظاً قد طرأ عليهن بعد مكالمة هاتفية، التفتت إليهن فوجدت عيونهن تحيطها بأسى وقالت إحداهن: “هذا ماجد بيقول إنه .. يعني .. أصله القسام أكدوا إن ما حدا ينكشف وجه مؤمن” نظرت لهن متشككة ورددت : “متحلل؟!” فاستدركت اختها قائلة: “لا لا .. والله قالوا إنه زي ما هو .. بس أصله .. أصله الصاروخ جاي برأسه .. ما في معالم بوجهه يا أختي .. كله صحيح بس الرأس.. قصدي .. خلي آخر ذكرى عنه حلوة .. هو أكيد ما راح يحب تشوفيه بهذا الشكل” أدارت بين وجوههن الباكية نظرة خاوية، وهمهمت بصوت منهك: “أنا أودعته الله .. الله ما راح يضيعه”»

«عادت تنظر إلى الطريق الذي بدأ يتحرك أخيراً .. طالعتها وجوه أصدقائه وأقاربه ورفاق دربه يحملونه على أكتافهم، مكفناً بعلم كتائب القسام الأبيض، تماماً كما أراد دائما، وورائه هرولت جماعات من الناس يهتف أحدهم ويردد الآخرين “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله” وحين اقترب الجمع من الباب، وأدخل النعش، دفعت سوزان من حولها وشقت طريقها بلهفة لتجد النعش قد وُضع على طاولة تتوسط غرفة المعيشة.. ألقت بنفسها على جسده المسجى، وراحت تتحسسه بيدها، حتى التقطت يده من تحت العلم الأبيض، تحسست أصابعه وثنت يده، ثم ابتسمت من بين دموعها، وهي تستنشق رائحة عطرة ملأت هواء الغرفة والبيت والشارع، تعالت صيحات لا إله إلا الله حولهما في حين صاحت هي بصوت مكتوم: “ما ضيعك الله يامًا ما ضيعك الله .. الحمد لله .. الحمد لله.. طلبتها ونلتها .. الحمد لله .. لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله”

ومن فوق الرؤوس الموحدة هبطت سكينة على القلوب الملتاعة، واتسعت ابتسامة رضى على وجه ودع الدنيا، وفي لحظات أخيرة تنظر عين راضية على الجسد الذي يستعد للفراق الأبدي ويحيط أمن بالعيون الدامعة، وهي تلقي آخر النظرات على النعش الذي عاد للأكتاف، وتنطلق قوة خفية في الأرجل الراكضة، وتتلاحق أنفاس اللاحقين المتزاحمين في الجنازة، مؤمن يستعجل الرحيل، يعود الجسد لبطن غزة، ترتقي الروح تودع، وداعاً ربماً ليس أخيراً، ما تبقى من أهل غزة ومن حارات غزة ومن مساجد غزة وكنائسها ومن ثبات غزة وحرائرها وجنائز الشهداء ودموع ثكالى وأرامل ويتامى غزة.. راحل يا مؤمن تتركنا وربما نظرت لنا روحك بحنانك المعتاد ورقة طبعك الجميل.. ربما نظرت لنا روحك وقالت: “أودعتكم الله”

إن صدقنا الله يا مؤمن فلن يضيعنا، هكذا تعلمنا من رحيلك أيها الصغير الذي كبر في غفلة منا، وبعد أن ظننا أننا كبار، جئت لترينا كم صغرنا.. جاء سريعاً هذا الرحيل، قبل أن نشبع من وجودك، قبل أن نفهم حقيقة وجودك، قبل حتى أن نستطيع أن نفهمك.. ما زلت يا صغيري لغزاً محيراً، كيف استطعت أن تفهم وتقرر وتعمل وتنجز وتحقق في هذا الوقت القياسي من عمرك القصير في هذه الدنيا الفانية .. لو كان كل منا يتحرك بطريقتك وإن كان في طريق غير طريقك لما كان هذا الحال حالنا.. أرجو أن لا يكون هذا وداعاً يا مؤمن نحتسبك عند الله شهيداً لحقت بالأحبة محمد وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونرجو الله أن ننال ما نلت من الشرف والكرامة عند الله 

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك