المبادئ الاساسية للفيزياء النظرية

محاضرة رقم (1)
سلسلة محاضرات البيرت اينشتاين 

(كلمة افتتاح لدورة الأكاديمية البروسية للعلوم عام 1914 كان اينشتاين عضو في هذه الأكاديمية من سنة 1913 - 1933 عندما استقال منها بعد تولي هتلر الحكم . وقد نشرت هذه المحاضرة في نشرات الأكاديمية البروسية للعلوم عام 1914)

أيها السادة:
أود أولا ان اشكركم من كل قلبي على جميلكم معي . إنه في الحقيقة أكبر ما يمكن أن يطمع به رجل مثلي . إنكم إذ تدعوني الى اكاديميتكم تسمحون لي أن اتفرغ كلية للبحث العلمي ، لا يؤرقني مشغوليات مهنة التدريس . يجب ان تتأكدوا من عرفاني لكم بالجميل وتصميمي الأكيد على المثابرة بالبحث ولو بدت لكم نتائجه جد متواضعة.

والآن ارجوا ان تسمحوا لي ان اعرض أمامكم بعض الملاحظات العامة عن علاقة الفيزياء النظرية وهي المجال الذي اخترته لنشاطي بالفيزياء التجريبية.

 قال لي منذ ايام احد اصدقائي الرياضيين مداعباً: " لا شك في ان عالم الرياضة عالم بارع يستطيع ان يقوم بالكثير من الأشياء ولكنها على الدوام غير ما يطلب منه أداؤه". ونفس الشيء يتكرر بالنسبة إلى الفيزيائي النظري ففي الكثير من الحالات يجد عالم الفيزياء النظرية نفسه في موقف مماثل إذا ما استشاره باحث في الفيزياء التجريبية ، وإني اتسائل الآن عن مصدر هذا التباين ولماذا كان هذا العجز التقليدي عن التلاقي ...."

إن منهج البحث النظري يتلخص في ان يتخذ الباحث لنفسه مسلمات عامة أو "مبادئ" يجعلها أساساً يستنبط منه النتائج . وهكذا نرى ان عمله ينقسم إلى جزئين: يجب عليه اولاً ان يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها ثم يتبع ذلك ان يستنبط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها . إنه يتزود في المدرسة بإعداد جيد استعدادا للقيام بهذا الجزء الآخير من عمله ولذلك فإنه إذا وفق في القسم الأول من بحثه في اي مجال من مجالات العلم او بالنسبة الى مجموعة معقدة من الظواهر المتشابكة يصل لا محالة الى النجاح اللذي يصبوا اليه إذ لا يتطلب الأمر هنا إلا بعض المثابرة والذكاء . 

ولكن طبيعة الوسيلة التي يلجأ إليها ليحقق الخطوة الأولى اي الإهتداء الى المبادئ العامة تلك المبادئ التي تكون بمثابة نقطة الإبتداء تختلف إختلافا كلياً عن ذلك.

فليس ثمة منهج يمكن تعلمه وتطبيقه الياً بحيث يؤدي الى الهدف المنشود فهنا يتعين على الباحث أن يستخلص تلك المبادئ العامة من الطبيعة ذاتها مباشرة وذلك بأن يستشف في خضم المركبات المعقولة التشابك من الحقائق التجريبية ملامح عامة وسمات معينة تخضع للوصف والصياغة الدقيقة .

فإذا تمت له هذه الصياغة بنجاح توالت الإستدلالات متعاقبة وغالباً ما تكشف هذه الإستدلالات عن علاقات مستترة تمتد الى ما وراء حدود الحقيقة التي استخلصنا منها بادئ الأمر المبادئ العامة .

ولكن الحقائق التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع بالنسبة للباحث النظري طالما انه لم يهتد الى المبادئ العامة التي يتخذها كقاعدة لإستنتاجاته.

ويظل مقيد اليدين حتى لو توفرت لديه قوانين عامة قائمة بذاتها مشتقة من التجربة إذ لن يستطيع أن يفعل شيئا بالنتائج المنفردة التي توصله إليها ابحاثه التجريبية حتى ينكشف أمامه المبدأ العام اللذي يستطيع أن يتخذه قاعدة لتفكيره الإستنباطي.

وهذا هو الوضع الحالي للأبحاث النظرية المتعلقة بقوانين إشعاع الحرارة والحركة الجزئية في درجات الحرارة المنخفضة فمنذ حوالي خمسة عشر عاماً لم يكن قد خطر لأحد من قبل أنه يمكن تفسير الخواص الكهربائية والضوئية والحرارية للمادة تفسيرا صحيحا على اساس تطبيق ميكانيكا نيوتن-جاليليو على حركة الجزيئات وعلى أساس نظرية ماكسويل للمجال الكهرومغناطيسي ثم اوضح بلانك انه كان ضروريا للوصول الى قانون عن إشعاع الحرارة يتفق مع التجربة الإلتجاء الى وسيلة جديدة في الحساب والتقدير أخذ تعارضها العظيم مع اسس الفيزياء الكلاسيكية يتضح تدريجياً.

لقد ادخل بلانك في الفيزياء فرض الكمات الذي تأكدت صحته منذ ذلك الحين تأكيداً قاطعاً .
وبهذا الفرض أنزل بلانك الفيزياء الكلاسيكية عن عرشها عندما تطبق على حالة تتحرك فيها الكتل الصغيرة جداً بسرعات ضئيلة جداً ومعدل عالٍ جداًمن العجلة بحيث أصبحت اليوم القوانين التي وضعها جاليليو و نيوتن للحركة غير مقبولة إلا كحالات حدية(1) أو قصوى .

ومع هذا فلم ينجح الباحثون النظريون حتى الآن في استبدال المبادئ الأساسية لميكانيكا بأخرى تتفق مع قانون بلانك عن الإشعاع الحراري أو فرض الكمات وذلك رغم محاولاتهم المستمرة . ومع انه لم يعد هناك شك في انه يجب تفسير الحرارة على اساس حركة الجزيئات فإننا يجب ان نسلم بأن وضعنا تجاه القوانين الأساسية لهذه الحركة يشبه تماماً وضع علماء الفلك قبل نيوتن تجاه حركة الكواكب.

لقد اشرت حالاً الى مجموعة من الحقائق التي تنقصنا في دراسة النظرية والمبادئ الأساسية . وقد يحدث العكس أحياناً فتؤدي بنا مبادئ أساسية واضحة الصياغة الى نتائج  تخرج كلية او ما يقرب من ذلك عن نطاق الحقيقة التي في متناول التجربة بالنسبة لنا حاليا وفي هذه الحالة قد يحتاج الأمر الى سنوات طويلة من البحث التجريبي للتحقق مما اذا كانت المبادئ النظرية تناظر الحقائق ام لا ونظرية النسبية من هذا النوع . 

لقد امكن لنا تحديد التصورات الأساسية للزمن والمكان أن مبدأ ثبوت سرعة الضوء في الفراغ اللذي تولد عن بصريات اجسام متحركة لا يضطرنا بحال من الأحوال الى التقيد بنظرية الأثير الساكن المضيء بل على العكس أدى الى تشكيل نظرية عامة تتقيد بحقيقة كون التجارب التي تجري على الارض لا تكشف ابداً عن اي حركة انتقالية لها .

وهذا يتضمن استخدام مبدأ النسبية اللذي ينص على ان قوانين الطبيعة لا يتغير شكلها عندما ينتقل المرء من مجموعة الإحداثيات الأصلية ( المقبولة ) الى مجموعة جديدة في حالة حركة انتقال منتظمة بالنسبة لها . لقد ايدت التجربة هذه النظرية تأييدا ماديا ادى الى تبسيط الوصف النظري لمجموعات من الحقائق مرتبطة ببعضها من قبل .

ومن الناحية الاخرى نجد ان هذه النظرية ليست مرضية نظريا لأن مبدأ النسبية اللذي عبرنا عنه حالا يحابي الحركة المنتظمة إذ لو كان صحيحاً أنه لا يجوز أن نعلق أي معنى مطلق من وجهة النظر الفيزيائية على الحركة المنتظمة لقفز الى اذهاننا على الفور هذا السؤال "ألا يجب ان يمتد تطبيق هذا المبدأ حتى يشمل الحركات غير المنتظمة ايضا؟ " ولقد اتتضح مع البحث اننا نصل الى امتداد واضح لنظرية النسبية لو أننا سلمنا بمبدأ النسبية بهذا المعنى الواسع وهذا يقودنا الى نظرية عامة عن الجاذبية تشمل الديناميكا ومع ذلك فلسنا نملك حالياً مجموع الحقائق التي تمكننا من أن نختبر إن كنا على حق في الاستناد إلى المبدأ اللذي سلمنا به أم لا .

لقد اوضحنا أن الفيزياء الاستنباطية والفيزياء الإستقرائية(2) تتبادلان الأسئلة وأن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب تكاتف جميع طاقاتنا . إني اتمنا ان نحقق نجاحا مضطردا بفضل تظافر جهودنا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحالة الحدية او القصوى هي الحالة التي تعبر عن الكل او المجموع فقط بوجه عام ولكنها لا تنطبق على المفردات او التفاصيل.
(2) يقصد اينشتاين بذلك الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية .

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك