--> -->

الإسراف في الطعام والشراب: بين النهي الشرعي والمفسدة الواقعية

author image

مقدمة:

الإسراف في كل شيء مذموم ومنهي عنه في الشريعة الإسلامية، لما فيه من تجاوز للحد، وتعدٍ على نعمة الله، وإهدار للموارد، وإفساد للنفس. فالإسلام دين الوسطية والاعتدال، لا يدعو إلى التقتير ولا يرضى بالتبذير، بل يضع ميزانًا دقيقًا في كل جوانب الحياة، يراعي فيه مصلحة الفرد والمجتمع، ويضمن حفظ النعم وعدم التعدي عليها. وقد جاء النهي عن الإسراف صريحًا في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، لما له من آثار سلبية على الروح والجسد، وعلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.

ومن أبرز صور الإسراف التي انتشرت في حياة الناس، الإسراف في الطعام والشراب، حيث يتحول الأكل من وسيلة للتقوّي على الطاعة إلى غاية في حد ذاته، تُستهلك فيها الأموال، وتُهدر فيها الأوقات، وتُثقل فيها الأجساد، وتُغفل فيها القلوب. وهذا النوع من الإسراف لا يُعد فقط مخالفة شرعية، بل هو أيضًا مظهر من مظاهر الغفلة عن الحكمة من النعم، وعن مسؤولية الإنسان في حسن استخدامها.

وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا الأمر بقوله تعالى:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ الأعراف: 31

فجعل الله تعالى حدًا للاستهلاك، وأوضح أن الإسراف لا يُرضيه، بل هو منبوذ في ميزان الشرع، ومكروه في ميزان العقل، ومضرّ في ميزان الصحة.

والنبي ﷺ، الذي كان أزهد الناس في الدنيا، وأعلمهم بمصلحة النفس، بيّن أن الاعتدال في الطعام هو مفتاح الصحة، وسبب في صفاء القلب، فقال:

"ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبه..." رواه الترمذي وابن ماجه

فمنهج الإسلام في التعامل مع النعم يقوم على الشكر، والاعتدال، والتوظيف السليم، لا على الترف، والتبذير، والتفاخر.

🍽️ توجيه نبوي في ضبط النفس

جاء في الحديث الشريف عن النبي ﷺ:

"ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني

هذا الحديث النبوي يُعد من أعظم النصوص التي جمعت بين الهدي الروحي والتوجيه الصحي، فهو لا يكتفي بالتحذير من الإسراف، بل يضع نظامًا غذائيًا متوازنًا، يُراعي فيه حاجة الإنسان الجسدية والنفسية، ويُقدّم نموذجًا مثاليًا في فن إدارة الجسد.

🔹 فلسفة الاعتدال النبوي

النبي ﷺ لم يدعُ إلى التجويع أو الحرمان، بل إلى الاقتصاد في الأكل، بحيث يكتفي الإنسان بما يُقيم صلبه، ويمنحه الطاقة دون أن يُثقله. فإن اضطر إلى الأكل الكامل، فليجعل ثلثًا لطعامه، وثلثًا لشرابه، وثلثًا لنفسه، وهي قاعدة ذهبية تُراعي التوازن الداخلي، وتمنع التخمة، وتُحافظ على صفاء الذهن.

🔹 أبعاد صحية ونفسية

  • جسديًا: الامتلاء يُضعف الدورة الدموية، ويُرهق الجهاز الهضمي، ويُسبب الخمول والكسل.

  • نفسيًا: التخمة تُورث الغفلة، وتُقلل من صفاء القلب، وتُضعف التركيز.

  • سلوكيًا: الإفراط في الطعام يُشغل الإنسان عن الطاعات، ويُرسّخ العادات الاستهلاكية الضارة.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن النظام الغذائي القائم على الاعتدال والجزئية يُقلل من الأمراض المزمنة، ويُحسّن جودة النوم، ويُعزز المناعة، وهو ما سبق إليه الإسلام منذ أكثر من 1400 عام.

🕊️ أثر ذلك في حياة السلف

كان السلف الصالح يحرصون على تطبيق هذا الهدي النبوي، فكانوا لا يأكلون حتى يجوعوا، وإذا أكلوا لا يشبعون، وكانوا يرون أن كثرة الطعام تُقسي القلب وتُضعف الهمة، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله:

"الزهد في الطعام يُورث صفاء القلب، وقوة الفهم، وخفة البدن"

⚠️ مفاسد الإسراف في الطعام والشراب

1. قلة نصيب الآخرة

كلما تنعّم الإنسان بالطيبات في الدنيا دون شكر أو ضبط، قلّ نصيبه في الآخرة. روى الحاكم عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

"إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا يوم القيامة" وزاد ابن أبي الدنيا: "فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا" وصححه الألباني

2. الانشغال عن الطاعات

الإفراط في إعداد الطعام والانشغال به يُضيّع على المسلم أوقاتًا ثمينة، خاصة في مواسم الطاعة كرمضان. فتجد كثيرًا من الناس، رجالًا ونساءً، يقضون ساعات طويلة في إعداد الأطعمة والحلويات، على حساب قراءة القرآن، والذكر، والقيام، وهي أولويات السلف الصالح في هذا الشهر الكريم.

3. الكسل والخمول

كثرة الأكل تُثقل البدن، وتُورث الكسل، وتدفع الإنسان إلى النوم الطويل، مما يُضيّع عليه فرص الإنجاز، ويُضعف همّته في العبادة والعمل.

4. غفلة القلب

من آثار التخمة أن القلب يغفل، والعقل يضعف، والنفس تميل إلى اللهو، وقد قال بعض السلف:

"إذا امتلأ البطن نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة"

🌿 دعوة للاعتدال: بين نعمة التوازن ومفسدة الإفراط

الإسلام لا يدعو إلى الحرمان، بل يُعلّمنا كيف نعيش النعمة دون أن نُفسدها. فالأكل والشرب من أعظم نعم الله على الإنسان، وقد جعلهما وسيلة للتقوّي على العبادة والعمل، لا غاية في حد ذاتها. ومن هنا جاءت دعوة الإسلام إلى الاعتدال، لا إلى الترف، ولا إلى التقتير، بل إلى التوازن الذي يُراعي حاجات الجسد، ويُحفظ به صفاء الروح.

قال الله تعالى:

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ فجعل الأكل والشرب مباحًا، لكنه قيّده بعدم الإسراف، لأن تجاوز الحد يُفسد النعمة، ويُقسي القلب، ويُضعف الهمة.

وقد جسّد الإمام الشافعي رحمه الله هذا المفهوم في سلوكه، فقال:

"ما شبعتُ منذ ستة عشر عامًا، لأن الشبع يُثقل البدن، ويُقسي القلب، ويُزيل الفطنة، ويُجلب النوم، ويُضعف صاحبه عن العبادة"

كلمات الشافعي ليست مجرد تجربة شخصية، بل هي توصيف دقيق لأثر التخمة على الإنسان:

  • تُثقل البدن: فتُعيق الحركة والنشاط

  • تُقسي القلب: فتُضعف التأثر بالقرآن والذكر

  • تُزيل الفطنة: فتُربك التفكير وتُقلل التركيز

  • تُجلب النوم: فتُضيّع الأوقات وتُضعف الإنتاج

  • تُضعف عن العبادة: فتُقلل من الإقبال على الطاعة والقيام

🧠 الاعتدال ليس حرمانًا... بل تحرّر

الاعتدال في الطعام يُحرّر الإنسان من عبودية الشهوة، ويُعيد له السيطرة على نفسه، ويُعزز صفاء القلب، ويُقوّي الإرادة. وهو سلوك نبوي وسلفي، لا يُمارس فقط في رمضان، بل يُعد منهج حياة.

وقد قال بعض السلف:

"من قلّ طعامه صفا قلبه، ومن كثر أكله قسا قلبه"

🕊️ خاتمة

فلنحرص على الاعتدال، ونُجدد نيتنا في كل لقمة، ونجعل من طعامنا وسيلة للتقوّي على الطاعة، لا سببًا للغفلة والكسل. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.