من مقاصد التربية الإسلامية عند الإمام الشاطبي


د. عبد الرحيم باحمو 

إن المتأمل في كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي لا يكاد يحيد نظره وهو يتأمله عن البعد المركزي للمقاصد والغايات، فهي ظاهرة بشكل واضح في كل المواقف والأقوال والأفعال؛ والسبب الحقيقي في ذلك أن الشاطبي –رحمه الله- استوعب المقاصد انطلاقا من أصول التربية الإسلامية فصاغ الغايات التربوية في ضوئها واستطاع أن يكيفها مع متطلبات العصر الذي عاش فيه. 

وإذا تتبعنا مقاصد التربية الإسلامية عند الشاطبي نجده يركز كلامه على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات. فالضروريات هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة. ولولا الحاجيات لوقع الناس في الضيق والحرج. والتحسينيات ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. ولا يخلو باب من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها([1]). ولقد تحدث الشاطبي عن هذه الكليات في الموافقات([2]) بشكل مفصل وأشبع الكلام في هذا المجال. 

وإلى جانب هذه المقاصد نجد أن المقصد الأساس من التربية الإسلامية عند الشاطبي هو التربية على مكارم الأخلاق ونبذ سيئها؛ حيث يعد هذا المقصد من أكبر مقاصد التربية التي جاءت الشريعة الإسلامية للحفاظ عليها. ويقصد بمكارم الأخلاق: (كل خصلة أمر الله بها أو نهي عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير)([3]). 

ولم تكن البيئة العربية قبل ظهور الإسلام عارية عن الأخلاق الفاضلة ومكارمها، بل كان الناس يعرفون بعضها في تلك العقود، ولما جاء الإسلام كانت دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- بإتمام تلك المكارم والدعوة إلى التحلي بها. عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([4])، فلفظة "لأتمم" توحي بأن الأخلاق الفاضلة موجودة ابتداءا عند العرب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم لتأكيدها والزيادة عليها. قال الشاطبي: (واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه)([5]). وكان الأمر بالتحلي بالأخلاق الفاضلة منذ فجر الإسلام في المرحلة المكية. قال الشاطبي: (وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية، من حيث كان آنس لهم، وأجري على ما يتمدح به عندهم)([6]). غير أن مكارم الأخلاق عندهم -آنئذ-كانت على ضربين: أحدهما مألوف والآخر غير مألوف، فما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي، وما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر، حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة([7]). 

ولقد سعت التربية الإسلامية من خلال أهدافها السامية إلى المحافظة على مقصد "التربية على مكارم الأخلاق ونبذ سيئها" عن طريق مراعاته من جانب الوجود ومن جانب العدم.

أما الجانب الأول فعن طريق الحفاظ على ما يقيم أركانه ويثبت قواعده من الأخلاق المحمودة كخلق العدل، والإحسان، والدفع بالتي هي أحسن، والصبر والوفاء بالعهد، وأخذ العفو، والإعراض عن الجاهل، والخوف من الله وحده ...قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([8]). 

وأما الحفاظ عليه من جانب العدم فيتم بدفع كل اختلال عنه كدفع الظلم، والفحشاء، والمنكر، والفساد في الأرض، والزنى، والقتل، والبغي... قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}([9]). 

فمقصد التربية على مكارم الأخلاق هو جوهر الشريعة وروحها، قال الشاطبي: (والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق)([10]). فالالتزام بالأخلاق الحسنة هو التزام بجوهر الشريعة. 

ومن المقاصد العليا التي تهدف التربية الإسلامية تحقيقها "مقصد التعليم"، أي تعليم الناس ما ينفعهم دنيا وأخرى؛ ذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا، ثم علمه ما لم يعلم، وهداه إلى مصلحته. غير أن ما علمه يمكن تقسيمه إلى قسمين: أحدهما ضروري/ فطري؛ حيث فطر الله الإنسان عليه وغرزه فيه، من غير أن يحتاج إلى تعلمه، ولا السؤال من أين؟ ولا كيف؟ ولا متى؟ وذلك كالتقامه ثدي أمه ومصه له بعد خروجه من بطنها. وكعلمه بوجوده. وثانيهما مكتسب؛ بحيث لا يتم إلا بواسطة التعليم، سواء أشعر بذلك أو لم يشعر. وذلك كمحاكاة الأصوات، والنطق بالكلمات، ومعرفة أسماء الأشياء- في المحسوسات، وكالعلوم النظرية التي تقتضي أن يستعمل الإنسان عقله ونظره في تحصيلها([11])؛ لذلك تحدث الشاطبي في الموافقات عن التربية العلمية ويقصد بها مخاطبة الناس على قدر عقولهم([12]).وإذا تأملنا واقع التربية والتعليم في عصرنا الحالي نجد بعض المربين يخاطبون تلامذتهم بمستوى يفوق قدرتهم العقلية، ويتبجحون بذكر المسائل العلمية لمن يجهلها. وقد ذكر الشاطبي أن هذا الأمر يخالف التربية المشروعة، وأنه يوقع في مصائب عظمى؛ لذلك قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)([13]). قال الشاطبي: (فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مربيا، واحتاج هو إلى عالم يربيه)([14]). 

فبالتربية العلمية الصحيحة ينقل المربي التراث الديني والثقافي والاجتماعي إلى من يربيهم، (وبالتربية يقوم جيل الكبار الراشدين في المجتمع بنقل ذلك التراث إلى جيل الصغار الناشئين)([15]). ونقل هذا التراث يتم بواسطة تعليم الصغار ما يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا كتعليمهم القرآن والسنة وسائر الأمور الدينية والشؤون الدنيوية النافعة، حيث يدفع المعلم عن المتعلم سائر الإشكالات التي تجول في خاطره (ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث)([16]). 

كما هدفت التربية من خلال مقاصدها العليا تهذيب سلوك الناس وتوجيه تصرفاتهم وإخراجهم عن أهوائهم حتى ينضبطوا للشرع الحكيم ويعملوا بمقتضاه وينقادوا لأحكامه. قال الشاطبي: (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا)([17]). 

ولما كانت وطأة الأهواء شديدة ومتحكمة في المجتمع الأندلسي، بين الإمام الشاطبي أن التربية الإسلامية تهدف إلى إخراج الناس من الأهواء، حتى يكون اختيار المكلف تابعا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله([18]). 

هكذا إذن يتضح بجلاء عمق وأصالة الجهود التربوية التي قام بها الإمام الشاطبي –رحمه الله-خاصة أنه ركز على الوحي وعلى مقاصد الشريعة... 
______________________________
([1]) مقدمة الموافقات: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ).تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م عدد الأجزاء: 7. ص 5
([2]) فقد خصص الشاطبي فصلا كاملا للحديث عن هذه الكليات في كتاب المقاصد (الجزء الثاني من الموافقات) 
([3]) الموافقات ج3/392
([4]) أبو بكر البيهقي: السنن الكبرى (10/ 323). بيان مكارم الأخلاق ومعاليها... رقم الحديث 20782
([5]) الموافقات 2/12
([6]) المصدر السابق 2/122-123
([7]) الموافقات 2/124. بتصرف.
([8]) سورة [النحل: 90]
([9]) سورة [الأعراف: 33]
([10]) الموافقات 2/124
([11]) الموافقات، ج1/ 139
([12]) المصدر السابق 1/123، بتصرف.
([13]) صحيح البخاري. كتاب العلم.باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا. (1/ 37) رقم الحديث127.
([14]) الموافقات (ج1/87)
([15])عبد الحميد الصيد الزنتاني. أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية. الدار العربية للكتاب. الطبعة الثانية 1993.ص 22
([16]) الموافقات ج2/ 363
([17]) الموافقات ج2/ 289
([18]) المصدر السابق. ص 293 

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك