--> -->

الفارعة بنت شداد: شاعرة الرثاء الجاهلي وصوت الحزن العذري

author image

رسم واقعي لامرأة عربية من الجاهلية تجلس حزينة قرب قبر في صحراء مظلمة أثناء عاصفة، ترتدي عباءة بنية وحجابًا داكنًا، وتظهر ملامح الحزن على وجهها بينما يضيء البرق السماء، في مشهد يُجسّد لحظة رثاء مؤثرة لشاعرة جاهلية فقدت أخاها.

📝 مقدمة تعريفية

يُشكّل الشعر النسوي في العصر الجاهلي نافذة نادرة على الوجدان الأنثوي العربي، حيث عبّرت الشاعرات عن مشاعر الفقد، والبطولة، والوفاء، في مجتمع يُهيمن عليه صوت الفروسية والقتال. وبين تلك الأصوات، تبرز الفارعة بنت شداد بوصفها شاعرة رثاء، جسّدت في قصيدتها لأخيها مسعود بن شداد لحظة من الحزن العميق، الممزوج بالفخر والتمجيد.

قصيدتها لا تُعد مجرد بكاء على القبر، بل هي وثيقة وجدانية تُعبّر عن موقف قبلي وإنساني، تُحوّل فيه الفقد إلى تمجيد، والدمعة إلى قصيدة خالدة. وقد استطاعت الفارعة أن تُجسّد في شعرها صوتًا نسويًا قويًا، يُعبّر عن البطولة من زاوية الحزن، ويُخلّد صورة الفارس القتيل في لغة جزلة ومؤثرة، مما يجعلها من أبرز الشاعرات الجاهليات اللواتي تركن أثرًا في الذاكرة الأدبية.

🧬 النسب والهوية القبلية

تنتمي الفارعة بنت شداد إلى قبيلة بني عذرة، إحدى بطون قضاعة، وهي قبيلة اشتهرت في الجاهلية برقة العاطفة وصدق التعبير، خاصة في شعر الحب العذري والرثاء. وقد انعكست هذه السمات في شعر الفارعة، الذي يُعد من أبرز نماذج الرثاء النسوي في العصر الجاهلي.

كانت الفارعة أختًا للفارس مسعود بن شداد، المعروف بـ"أبي زرارة"، الذي قُتل في إحدى المعارك بعد أن أُسر ولم يُعرف، ثم استسقى قومًا فمنعوه الماء حتى مات عطشًا. هذه الحادثة المأساوية شكّلت جوهر قصيدتها، وجعلت من رثائها وثيقة وجدانية تُعبّر عن الحزن والوفاء والتمجيد.

وقد عُرفت الفارعة في المصادر التراثية بوصفها شاعرة رثاء، لا شاعرة غزل أو هجاء، مما يُبرز خصوصية صوتها الشعري، ويُميّزها عن كثير من الشاعرات الجاهليات اللواتي ارتبط شعرهن بالغزل أو الفخر. فهي تُجسّد نموذجًا نادرًا للمرأة التي تُعبّر عن البطولة من زاوية الحزن، وتُخلّد صورة الفارس القتيل في لغة جزلة ومؤثرة.

⚰️ السياق التاريخي لقصيدتها

جاءت قصيدة الفارعة بنت شداد في سياق مأساوي عميق، حيث قُتل أخوها مسعود بن شداد، المعروف بـ"أبي زرارة"، في إحدى المعارك القبلية، بعد أن أُسر ولم يُعرف مصيره. ثم استسقى قومًا من خصومه، فمنعوه الماء، فمات عطشًا، في مشهد يُجسّد أقصى درجات القسوة والانكسار في الجاهلية.

عندما بلغها خبر مقتله، ألّفت قصيدتها التي جاءت محملة بالحزن واللوعة والتمجيد، تُبكيه وتُخلّد صفاته، وتُناجي الطبيعة كي تسقي قبره، في استعارة مؤثرة تُجسّد الحزن الأنثوي في مواجهة الفقد. لم يكن رثاؤها مجرد بكاء، بل كان موقفًا شعريًا حادًا، يُعبّر عن الوفاء والبطولة، ويُحوّل الحزن إلى تمجيد.

وتُعد هذه القصيدة من أبرز نصوص الرثاء الجاهلي، لما فيها من صدق وجداني، وجزالة لغوية، وصور شعرية تُجسّد موقفًا أنثويًا نادرًا في الشعر العربي القديم، حيث تتحدث المرأة لا بوصفها تابعة، بل بوصفها صاحبة موقف وشهادة، تُخلّد أخاها وتُدين قاتليه، وتُسجّل لحظة الفقد في لغة لا تقل فروسية عن السيف.

🎙️ شعرها وخصائصه الفنية

تُعد قصيدة الفارعة بنت شداد من أبرز نماذج الرثاء النسوي في العصر الجاهلي، وقد وردت في مصادر أدبية مثل شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام لبشير يموت، وموسوعة التراجم، مما يُؤكّد حضورها في الذاكرة الأدبية بوصفها صوتًا أنثويًا نادرًا عبّر عن الحزن والبطولة في آنٍ واحد.

ويتميّز شعرها بعدة خصائص فنية بارزة:

  • الجزالة والرقة: تجمع بين قوة التعبير ونعومة العاطفة، في توازن نادر بين الفخر واللوعة.

  • الصور الحزينة والوجدانية: تُجسّد الحزن في صور بصرية مؤثرة، مثل البكاء، والبرق، والقبر.

  • الوفاء والتمجيد: تُخلّد صفات أخيها، وتُحوّل الفقد إلى تمجيد بطولي.

  • الربط بين الطبيعة والحزن: استعارت البرق لسقي قبر أخيها، في صورة رمزية تُعبّر عن الأمل وسط الحزن.

ومن أشهر أبياتها التي تُجسّد هذه الخصائص، قولها:

يا عينُ بكي لمسعود بن شدادٍ بكاءَ ذي عَبراتٍ شَجوهُ بادي

في هذا المطلع، تُناجي عينها لتبكي أخاها بكاءً لا يُخفي حزنه، بل يُعلنه، في تعبير وجداني صادق يُجسّد الحزن العذري في أبهى صوره.

شعر الفارعة لا يُقرأ بوصفه رثاءً شخصيًا فحسب، بل بوصفه وثيقة وجدانية وقبلية، تُعبّر عن موقف المرأة الجاهلية في لحظة الفقد، وتُخلّد صورة الفارس القتيل في لغة جزلة، تُضاهي شعر الفخر والحماسة من حيث القوة والرمزية.

📚 مكانتها في الأدب الجاهلي

تُعد الفارعة بنت شداد من الأصوات النسوية النادرة التي استطاعت أن تُعبّر عن الحزن بصيغة بطولية، لا بكائية، حيث تحوّلت قصيدتها من مرثية شخصية إلى نص قبلي تمجيدي يُخلّد صورة الفارس القتيل، ويُدين القسوة، ويُناجي الطبيعة لتشاركها الحزن. هذا التوازن بين اللوعة والاعتداد يجعل من شعرها نموذجًا فريدًا في الأدب الجاهلي.

وقد استشهد الباحثون بشعرها في دراسات الرثاء، والوجدان الأنثوي، والرمزية الشعرية، لما فيه من صور مؤثرة، واستعارات بصرية، وصدق وجداني نادر. فهي لا تبكي أخاها فقط، بل تُعيد تشكيله في الذاكرة الشعرية بوصفه رمزًا للبطولة والكرامة، مما يُضفي على قصيدتها طابعًا سرديًا وتوثيقيًا يتجاوز العاطفة الفردية.

وتُقارن قصيدتها أحيانًا برثاء الخنساء لأخيها صخر، لكن الفارعة تميّزت بـجزالة لغوية أعلى، وتكرار أقل، مما يُضفي على شعرها طابعًا أكثر تركيزًا واحتشادًا، ويُبرز قدرتها على التعبير المكثّف دون استطراد، في لغة تُضاهي شعر الفخر من حيث القوة، وتُجسّد الحزن من حيث الصدق.

🧩 أثرها في الذاكرة الثقافية

ظل اسم الفارعة بنت شداد حاضرًا في عدد من المصادر الأدبية والمعرفية، مثل ويكيبيديا، وكتاب شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، وموسوعة الأدب العربي، مما يُؤكّد أن قصيدتها لم تكن لحظة عابرة، بل تحوّلت إلى وثيقة وجدانية خالدة تُضيء جانبًا من حياة المرأة الجاهلية في لحظة الفقد.

قصيدتها تُجسّد كيف يمكن للمرأة أن تُعبّر عن البطولة والوفاء من موقع الحزن، لا من موقع الفخر المباشر، مما يُعيد تعريف البطولة في الشعر الجاهلي من زاوية وجدانية وإنسانية. وقد أصبحت قصيدتها مرجعًا في دراسات الرثاء والرمزية والوجدان الأنثوي، حيث تُستحضر في سياقات أدبية تناقش دور المرأة في التعبير عن الموقف، لا بوصفها تابعة، بل بوصفها شاهدة ومُخلّدة.

هذا الحضور الثقافي يُبرز أن الفارعة لم تكن مجرد شاعرة تبكي أخاها، بل كانت صوتًا أنثويًا مقاومًا، يُدين القسوة، ويُخلّد الكرامة، ويُحوّل الحزن إلى تمجيد، مما يجعلها من الرموز التي تستحق إعادة الاعتبار في سردية الأدب العربي القديم.

🧩 خاتمة تحليلية

تُجسّد الفارعة بنت شداد نموذجًا فريدًا للشاعرة الجاهلية التي استطاعت أن تُحوّل الحزن إلى تمجيد، والدمعة إلى وثيقة وجدانية خالدة. لم يكن رثاؤها لأخيها مجرد تعبير عاطفي، بل كان موقفًا شعريًا حادًا، يُخلّد صورة الفارس القتيل، ويُدين القسوة، ويُناجي الطبيعة لتشاركها الحزن، في لغة جزلة تُضاهي شعر الفخر من حيث القوة، وتتفرد عنه من حيث الرقة والصدق.

قصيدتها تُعبّر عن لحظة وجدانية مشبعة بالحب والكرامة، تُعيد تعريف البطولة من زاوية أنثوية، وتُقدّم نموذجًا نادرًا للمرأة التي لا تكتفي بالبكاء، بل تُشارك في صياغة الذاكرة القبلية، وتُخلّد موقفًا إنسانيًا عميقًا. وقد استطاعت أن تُحوّل تجربتها الفردية إلى صوت جمعي يُعبّر عن وجدان بني عذرة، ويُضيء جانبًا من حياة المرأة الجاهلية في لحظة الفقد.

وإرثها الشعري، رغم محدودية ما وصلنا منه، يستحق إعادة قراءة نقدية تُعيد الاعتبار لصوتها، وتربط بين التجربة الفردية والوجدان الجمعي، وبين الحزن والبطولة، وبين المرأة والقبيلة، مما يجعلها من الرموز التي تستحق أن تُستعاد في سردية الأدب العربي القديم، لا بوصفها استثناءً، بل بوصفها شهادة شعرية على البطولة من قلب اللوعة.