مالك بن فهم الأزدي: مؤسس الحكم العربي في العراق قبل الإسلام
🔍 المقدمة: مالك بن فهم بين الهجرة والتأسيس
في عمق التاريخ العربي قبل الإسلام، يبرز اسم مالك بن فهم الأزدي بوصفه شخصية مفصلية في سردية العرب خارج الجزيرة. لم يكن مجرد مهاجر من اليمن بعد سيل العرم، بل كان حاملًا لبذرة التأسيس السياسي والثقافي في أرض الحيرة، حيث أسّس حكمًا عربيًا مستقلًا وسط صراع القوى الإقليمية. تُعيد سيرته طرح سؤال رمزي بالغ الأهمية: هل كان مالك بن فهم مجرد ملك يبحث عن مأوى؟ أم أنه كان مؤسسًا لهوية عربية جديدة، تتجاوز الجغرافيا إلى المعنى، وتُمهّد لظهور نماذج قيادية عربية قبل الإسلام؟ هذا المقال يحاول أن يُنقّب في تلك اللحظة التأسيسية، ويعيد الاعتبار لملكٍ صاغ حضوره بصمت، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى في الذاكرة الثقافية والسياسية.
🏞️ النسب والهجرة: من سيل العرم إلى تأسيس الحضور العربي
ينحدر مالك بن فهم الأزدي من قبيلة الأزد القحطانية، إحدى القبائل اليمنية العريقة التي شكّلت جزءًا من النسيج العربي الجنوبي قبل الإسلام. وقد جاءت هجرته في سياق تاريخي بالغ الرمزية، عقب حادثة سيل العرم، التي لم تكن مجرد كارثة طبيعية، بل لحظة مفصلية دفعت العرب إلى إعادة توزيع وجودهم الجغرافي والثقافي.
قاد مالك جماعة من قومه في رحلة طويلة نحو العراق، بينما اتجهت قبائل أخرى نحو الشام والحجاز. لكن ما ميّز مساره أنه لم يكتف باللجوء، بل أسّس لنفسه حضورًا سياسيًا في منطقة الحيرة، حيث بدأ بناء حكم عربي مستقل، بعيدًا عن هيمنة الفرس والروم. كانت هجرته فعلًا تأسيسيًا، لا مجرد انتقال جغرافي، إذ حمل معه إرث الأزد، وأعاد تشكيله في أرض جديدة، ليكون بذلك من أوائل من رسّخوا الهوية العربية خارج الجزيرة، في زمن كانت فيه السلطة تُقاس بالتحالفات والقدرة على التمركز.
👑 التأسيس السياسي: من التحالف إلى السيادة
لم يكن مالك بن فهم مجرد مهاجر يبحث عن الاستقرار، بل كان قائدًا سياسيًا بارعًا، أدرك أن بناء الحكم لا يتم إلا عبر التحالفات الذكية والتمركز الاستراتيجي. فتحالفه مع قبائل تنوخ لم يكن عابرًا، بل كان خطوة تأسيسية جمعت بين القوة القبلية والرؤية القيادية، مما مكّنه من ترسيخ حكمه في منطقة الأنبار، بعيدًا عن هيمنة القوى الكبرى آنذاك.
وفي خطوة جريئة، قاد مالك حملة لطرد الفرس من عمان، ليُثبت أن الملك العربي قادر على استعادة الأرض، لا فقط الدفاع عنها. توسّع نفوذه ليشمل مناطق متعددة، وأصبح حضوره السياسي يُحسب له حساب في ميزان القوى الإقليمية.
لكن الأهم من ذلك، أن مالك بن فهم جسّد رمزية الملك العربي المستقل، في زمن كانت فيه السلطة تُقاس بالولاء لإمبراطوريات خارجية. لقد قدّم نموذجًا مبكرًا للقيادة العربية التي لا تستند إلى التبعية، بل إلى التحالف، السيادة، والقدرة على فرض الواقع الجديد.
⚔️ حادثة الوفاة: حين يتحوّل التعليم إلى سهم قاتل
في مشهد مأساوي يختلط فيه الحزن بالحكمة، انتهت حياة مالك بن فهم الأزدي على يد ابنه سليمة، لا غدرًا بل خطأً، حين رماه بسهم ظنًا منه أنه عدو يتسلل ليلًا. المفارقة المؤلمة أن مالك هو من علّم ابنه الرماية، فكان السهم الذي صقله بيده هو ذاته الذي أنهى حياته. في لحظة الموت، لم يصرخ مالك، بل أنشد أبياتًا خالدة، تُجسّد عمق المفارقة بين الثقة والتعليم والخيانة غير المقصودة. يقول:
جزاه الله من ولد جزاءً سليمة إنه سا ما جزاني أعلّمه الرماية كل يوم فلما استد ساعده رماني
هذه الأبيات ليست مجرد رثاء، بل تأمل فلسفي في هشاشة العلاقة بين السلطة والبنوة، بين الإرادة والنتيجة، بين ما نغرسه وما نحصد. لقد تحوّلت الرماية من مهارة إلى مأساة، وتحولت القيادة من فعل إلى ذكرى، وكأن مالك بن فهم أراد أن يُعلّمنا أن كل قوة لا تُصان بالوعي، قد ترتد على صاحبها.
🧠 الإرث الثقافي: ملكٌ في الظل وصانعٌ في العمق
رغم أن اسمه لا يتردد كثيرًا في السرديات الشعبية، فإن مالك بن فهم الأزدي يُعد من أوائل من أسّسوا لحكم عربي مستقل في العراق، قبل الإسلام بقرون. لقد مهّد الطريق لظهور شخصيات مثل جذيمة الأبرش، الذي ورث الحكم بعده، وارتبط اسمه بنقوش أثرية تُثبت الحضور العربي في الحيرة، مثل نقش أم الجمال ونقش النمارة.
لكن المفارقة أن مالك، رغم دوره التأسيسي، ظل غائبًا عن الذاكرة الجماعية، وكأن التاريخ اختار أن يُبقيه في الظل، بينما تصدّرت مشهد السرد شخصيات لاحقة. هذا الغياب لا يُقلّل من أثره، بل يُحفّز على إعادة قراءته بوصفه نموذجًا للملك المؤسس، لا الملك المتسلّط، الذي بنى سلطته عبر التحالف لا القهر، وعبر التمركز لا التوسع.
في زمن تتجدد فيه الحاجة إلى سرديات عربية حديثة تُعيد الاعتبار للملوك المؤسسين، يُمكن لمالك بن فهم أن يعود، لا كاسمٍ في الهامش، بل كرمزٍ للقيادة الرصينة، والهجرة الواعية، والتأسيس الصامت الذي سبق الصخب السياسي. إن استعادته ليست مجرد إنصاف تاريخي، بل خطوة نحو بناء سردية عربية متوازنة، تُنقّب في الجذور لتفهم الحاضر وتُعيد تشكيل المستقبل.
🪞 التأطير الفلسفي: من التيه إلى التمركز الرمزي
في تجربة مالك بن فهم الأزدي، لا نقرأ مجرد سيرة ملك هاجر من الجنوب إلى الشمال، بل نواجه تحولًا فلسفيًا من الهجرة إلى التأسيس، ومن التيه إلى التمركز. لقد غادر اليمن بعد سيل العرم، لا ليذوب في أرض جديدة، بل ليعيد تشكيلها وفق رؤيته، ويؤسس فيها حضورًا عربيًا مستقلًا في الحيرة، بعيدًا عن هيمنة القوى الكبرى.
تُجسّد تجربته العلاقة العميقة بين الأرض والهوية؛ فالأرض ليست مجرد جغرافيا، بل فضاء يُعاد تشكيله بالوعي والقيادة. ومالك لم يكن تابعًا لجغرافيا مفروضة، بل صانعًا لهوية جديدة في أرض لم تكن تُحسب للعرب، مما يجعله نموذجًا عربيًا مبكرًا للقيادة خارج الجزيرة، قيادة لا تستند إلى النسب وحده، بل إلى الفعل السياسي والتحالفات الذكية.
في زمن كانت فيه السلطة تُقاس بالولاء للفرس أو الروم، جاء مالك ليُعيد تعريف الملك العربي بوصفه كيانًا مستقلًا، قادرًا على التمركز، لا التبعية. وهنا تكمن رمزيته: أنه لم يكن مجرد ملك، بل فيلسوف فعلٍ عربي، سبق عصره، وترك أثرًا يتجاوز حدود التاريخ إلى عمق الهوية.
📚 الخاتمة: استعادة الملك المؤسس في الوعي العربي المعاصر
في هذا المقال، تتبعنا سيرة مالك بن فهم الأزدي من جذورها القحطانية إلى لحظة التأسيس السياسي في الحيرة، مرورًا بهجرته الرمزية بعد سيل العرم، وتحالفه مع قبائل تنوخ، وانفراده بحكم مستقل في الأنبار، وصولًا إلى حادثة وفاته التي تحوّلت إلى تأمل فلسفي في الثقة والقيادة. استعرضنا إرثه الثقافي الذي مهّد الطريق لجذيمة الأبرش، وتوقفنا عند غيابه النسبي عن السرديات الشعبية رغم أهميته التأسيسية، ثم تأملنا رمزيته بوصفه نموذجًا عربيًا مبكرًا للقيادة خارج الجزيرة.
إن مالك بن فهم لا يستحق فقط أن يُذكر، بل أن يُعاد إدراجه في المحتوى الثقافي المعاصر، سواء عبر المقالات الموسوعية، أو الأعمال الدرامية، أو حتى المناهج التعليمية التي تبحث عن نماذج عربية تأسيسية تتجاوز الأبطال التقليديين. إن إعادة قراءة الشخصيات المؤسسة في التاريخ العربي ليست ترفًا معرفيًا، بل ضرورة لبناء سردية متوازنة تُنقّب في الجذور لتفهم الحاضر، وتُعيد الاعتبار لمن صاغوا الهوية بصمت، قبل أن يتكلم التاريخ بصوت مرتفع.