رقة ودقة اللفظ العربي


           رقة ودقة اللفظ العربي
            للكاتبة : سعاد الورفلي 

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
              وقت الزيارة ، فارجعي بسلام
يمتلك العربي الشاخص في الصحراء العربية ، تلك الصحراء بقيظها وقسوتها تطبع شيئا من جدلية قوة المراس على شخصيته ؛ فيصبح في علائق الدراسات  أن ذلك العربي يمتاز بالقوة والخشونة والجلد ، وقسوة الطبع والمِزاج تبعا للطبيعة التي عاش فيها – لاجرم أننا نعلم جميعا- دور الموقع الجغرافي في إكساب المقيم فيه شيئا من ملامح الطبيعة ، فكثيرون وضعوا مقارنات بين شعر الحضر والبادية والتمسوا مواطن اختلاف كبيرة في دراستهم لطبيعة الشعر العربي ، حيث لشعر الحضر خفة ورقة ،
بينما امتاز البوادي بجزالة اللفظ وقوته ومتانته وخشونة بعض المترادفات ..وليس هذا موضوعنا بقدر ماهو انعكاس لمفردات الشاعر العربي الساكن في البيداء ، ورقة كلماته ودقتها ...ولنا في قصائد المعلقات دليل رواية ودلالة أنها امتلأت بعذب الألفاظ ورقيقها ؛ رغم قسوة البيئة على الشاعر آنذاك وجلافة العربي بين بيدائها وقتذاك ..
فالشاعر استلهم الحياة ، ودار في فلكها كما تدور النجوم في مجراتها وأفلاكها ، ولم يقم بتعطيل الذائقة ولا المشاعر ولا الخيال ..كل ما يتعلق بهذه الثلاثية جعله يتحرك دون قيد أو شرط أو منع أو إيجاز محدود أو وقف أو إطلاق على كله ..بل ترك كل ما يدعو للانطلاق الذوقي والخيالي والشاعري يتحرك دونما قيود أو تردد.
 فانبثقت طبيعة الشاعر العربي مؤْذنة بقوة اللفظ النابع من قوة اللسان العربي وجزالته فتوظفت المفردة خير توظيف وجاءت منوطة بالسياق المعبر والأداء المميز ، مستدعية من غزير اللغة ما يملكه العربي متماهية ومتمازجة مع عواطفه القوية الجياشة فأخذ هذا من ذاك وأعطى ذاك لهذا فتلوّن وتصبّغ اللفظ العربي بكل ألوان الصحراء التي كانت جامدة ؛ فأضحت لوحة زاهية مليئة بالخيال والحديث والوقوف والأطلال والسحب وبقر الوحش والظباء المتناثرة على الوعساء ..ونظرات الشاعر وهي تترامى وتتزامن في كل لحظة مع من يعشقها القلب ويحتفي بها فيرى صورتها معكوسة على كل شيء ؛ وجهها بديلا للشمس وعيناها ترقبانه عند ارتفاعه وهبوطه عبر كل تلك الكثبان والرمال ..وهو يقود دابته ويحدثها ويتسلى إليها عن حبيبته التي ملكت فؤاده فانبثقت المفردات حرة طليقة ليبوح الشاعر العربي بمكنوناته ويسترسل في توظيفه للكلمات التي تناسب مقامه أو لا تناسبه كل ٌّ حسب احتياج المقام ، والحالة المهيأة فتنطلق معلقة تُطْلى بماء الذهب وتُعلق على أستار الكعبة –حينذاك- ذهولا من تلك اللغة القوية التي غلبت قوتها شخصية العربي وطبيعته .
سيقف المتتبع لكل تلك المقامات المتذوق جزيل اللفظ والعبارات ، في الدواوين وفي المكاتبات وقفة الحائر الذي امتلكت الحيرة تفكيره وقلبه ...فكيف لعربي بتلك المواصفات وذلك الطبع أن يرْشح رقةً وشاعرية تصل حد البكائيات !!
هل لقسوة الطبع علاقة بالرقة ؟
لقد رقت كلمات العربي حين دقت" طرقتك صائدة القلوب" فهذه اللفظة تحمل في ثناياها رقة بديعة وسطوة عظيمة ، ومهابة تفوق مهابة صاحبها ... فكم من جمال في مفردات السياق العربي حين يؤخذ من عمق اللغة وجزالتها ..فهي لا تضن – أبدا – بـِدُرِّها ولآلئها ولاتزال تمد من نهرها عذبا فراتا سائغا شرابه .
رقة مُلئت حبكة وقصة وحكاية ورواية في مقطوعات شعرية مقطورة مسلسلة محكمة البناء والنسيج ، تمازج عذبٌ بين التشبيب والصدِّ والحب والهجر ، والإرادة والعزوف ... جميع مواصفات الحب البديع والهجر الجميل والعتاب الرقيق الذي  يظهر بالتحنان والولَهِ وهو في نفسه صدٌّ ورَدّ. فجميع مواصفات ذلك الحب والهجر تمثلت في هذا البيت بكل موضوعية " فارجعي بسلام " سلاسة الكلمات تنساب مثل شلال ماء يهمس من خلف جبل ..هو ذلك العربي كطود ٍ يترفق بحبيبه ويهمس " فارجعي بسلام " يا " صائدة القلوب " أتراه يخاطبها حقيقة ؟أم طيفا ؟ أم خيالا ؟ أم خاطرة خطرت ؛ فأرّقت مرقدَه.. جفا النوم جفنه .. وأقلقه الفراش فتقلَب وتقلبت معه المشاعر حين سكنت الفكرة ...فانساب الكلم العربي انسياب حرف  يمتلك من البلاغة ما يمتلكه ومن البديع وسبك الكلمات وإيحائها في معنى قوي يؤدي الغرض ، ويذهب أكثر مما يذهب ليسلب اللُّب فيجن العقل ويتيه في صحارى العربية باحثا عن نفسه وعن كُنهه؛ كل ذلك وأكثر تمثل في بلاغة العربي ..
فالعربية ليست مفردات يتحلق حولها الإعراب والقواعد والصرف ؛ بل هي البلاغة البليغة والمفردة المؤثرة ..كم من جمل فتحت بلدانا وكم من خطب ً هدت إلى سواء السبيل ، وكم من حكمة تداولتها الأمم جيلا بعد جيل ورسخت رسوخ عسيب ... هذه اللغة انبثقت من اللسان العربي ..وباهَى بها العربي أمام الأمم فأضْفت على شخصيته قوة ولسانه بيانا ، فذهب البيان كالسحر وتفتقت أمامه قرائح النفس ، وتعطَرت المفردات فأذهلت المخلوقات ..ما إن قرأ أو تغنى متغنٍ حتى أغمض السامع عينيه وحرك رأسه يمينا وشمالا ..كأنه في معرض ذهول كاد أن يتيه رقصا و طربا أو يمشي دون وعي على الهواء ويستفيق من خمرة مفرداتها ليجد نفسَه مأخوذا بها ..مفتونا بجمالها .
" فارجعي بسلام " ففي موضع الجمال لا شيء يتحدث سوى القلب واختلاجاته ، فيصير في لغة قحطان –ذلك القلب – المفتون باللسان ذا لسان وشفتين ..وعيون تؤرقها المعاني وتسلبها الكنايات والاستعارات قلبا كان ساكنا حينما تذوق حلاوتها اختلج وهاج ...
فحديثه غير حديث العقل والنفس ؛ فللقلب سطوة إذا ما استحكمت نطق صاحبه بغير ما أُلِف عليه وعُرِف به " وليس ذا وقت الزيارة " .
اللفظة العربية لها قوة تستجمع ألباب القراء والمتابعين ؛ حتى ليصابوا بذهول ينوء به أولو القوة حينما يجمع العربي صاحب الصيعرية مكدم ، الكلمة المفردة وينعته نعوت البديع ويلبسه القشيب من البيان والمعاني ، فيصبح اللفظ العصي زاهيا جزلا متينا رغم رقة الخيال ، فيوظفه الشاعر خير توظيف لمشاعره التي تنْضح رقة وذوقا وشفافية وحبا أرقّ وأدق من فتيل التمر .

هو ذاك ..اللفظ العربي على لسان الشاعر العربي : فارجعي بسلام . 

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك