القهوة أكثر من مجرد مشروب



 في زاوية كل صباح، وعلى طاولة في مقهى صغير أو مكتب مزدحم، تتسلل رائحة القهوة كأنها إعلان لبداية جديدة. ليست القهوة مجرد مشروب يُعدّ من حبوب مطحونة، بل هي طقس إنساني عميق، يحمل في رشفاته ما لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه.

القهوة في ميزان الزمن

منذ أن اكتُشفت حبوب البن في مرتفعات إثيوبيا، وحتى وصلت إلى مقاهي باريس وإسطنبول وصنعاء، والقهوة تروي قصة الإنسان في بحثه عن الدفء والتيقظ والانتماء. لم تكن مجرد مشروب لدرء النعاس، بل رافقت الشعراء والفلاسفة، وغزت المجالس والمنتديات، وارتبطت بالحكمة والتأمل.

في العصر العثماني، لم يكن يُسمح للبيوت أن تخلو من القهوة، بل إن هناك حالات طلاق في بعض الروايات، كانت تحدث إن لم يوفر الرجل القهوة لزوجته. أما في اليمن، فقد ارتبطت القهوة بروح التصوف، حيث كانت تُشرب خلال حلقات الذكر والإنشاد.

بين الروح والجسد

من الناحية البيولوجية، القهوة محفّز عصبي، يزيد من اليقظة ويعدل المزاج. لكنها من ناحية أخرى، تتسلل إلى الروح. فكوب القهوة لا يُشرب على عجل، بل يُرتشف بروية، كأن الزمن يتباطأ ليمنحنا لحظة نادرة من الصفاء وسط الفوضى.

كثيرون يربطون القهوة بالوحدة، ولكنها أيضًا مشروب اللقاء الأول، وبداية الحوارات العميقة، ومرافقة لحظات الكتابة والتفكير. هي صديقة الصباح وسر الليل الطويل.

رمزية القهوة في الثقافة العربية

في الثقافة العربية، تمتزج القهوة بالكرم والترحيب. في الخليج، تُقدَّم القهوة العربية في فنجان صغير، وتُسكب بيد اليمنى في دلة نحاسية، ترافقها التمرات وكلمات الترحيب. في بلاد الشام، تُغلى على نار هادئة وتُقدَّم بطعمها المر، لتكون رمزًا للصبر والتأمل.

وفي القصائد، تحضر القهوة كشخصية مستقلة، تُعانق الشعر وتؤنس السهر. يقول محمود درويش:
"القهوة ليست إدماناً أو عادة، القهوة أن تكون في المكان الذي تحبه، مع الوجه الذي تحبه."

مستقبل القهوة... بين الأصالة والتحديث

اليوم، يعيش مشهد القهوة تحوّلات كبيرة، من موجتها الثالثة التي تحتفي بجودة الحبوب ومصدرها، إلى مقاهي التخصص التي تعيد تعريف "القهوجي" كخبير ذوق وفن. لكنّ السؤال يبقى: هل ستفقد القهوة معناها الأصلي أمام سرعة الحياة وتغير الأذواق؟

ربما لا. لأن القهوة، في جوهرها، ليست مجرد ذوق... بل لحظة.

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك