الدروز: شعبٌ بين الجبل والروح، والهوية والانتماء



 في أعماق الجبال الشاهقة، بين لبنان وسوريا والأردن، يعيش شعبٌ غامض ومتماسك، لا يعرفه الكثيرون إلا من خلال الإشاعات أو الصور النادرة، إنه الشعب الدرزي . ليسوا مجرد أقلية دينية أو عرقية، بل هم تجسيد لرمزية الانتماء العميق، والهوية المتينة التي صمدت أمام مرور الزمن.

النشأة: من الفاطميين إلى "الحكمة"

الدروز ليست مجرد "طائفة"، بل هم نظام فكري وديني متكامل، ينبع من أصول إسماعيلية، ويرتبط اسمه بـ الدروز ، من أتباع الحاكم الفاطمي الهادل بن مансور**، الذي أُعلن كـ "الإله المتجسد" في القرن الحادي عشر. ومع مرور الوقت، تطورت تعاليمهم لتضيء بنور الحكمة ، حيث صار الدين الدرزي مزيجًا من الفلسفة، والروحانية، والفكر العقلاني.

لا يُعتبر الدروز دينًا تقليديًا بالمعنى السائد، بل هو طريقة حياة تستند إلى مبادئ مثل الوحدة، والعدالة، والصدق، والإخلاص ، وتمتنع عن التبشير أو التحويل، مما جعله دينًا سريًا إلى حدٍ ما، لا يُكشف عن تعاليمه إلا للمؤمنين الداخليين.

الهوية والانغلاق الثقافي: درعٌ أم سجن؟

من أبرز سمات المجتمع الدرزي الانغلاق الثقافي ، والذي يُنظر إليه أحيانًا كوسيلة للحفاظ على الهوية، وأحيانًا أخرى كموقف يثير الجدل. هذا الانغلاق لم يكن يومًا نتيجة للتعصب، بل كان ردّ فعل على القمع التاريخي الذي عاشه الدروز على مر العصور، من الحروب الصليبية إلى الحملات العثمانية، ثم التدخلات الحديثة.

ومع ذلك، فإن الانغلاق لم يمنع الدروز من الانفتاح الفكري . فهناك دروز ي brill في الطب، والهندسة، والسياسة، والفنون، وهم يمثلون نماذج راقية من التكامل بين الأصالة والمعاصرة.

المرأة الدرزية: بين التقاليد والتطور

تُعد المرأة الدرزية من أبرز رموز التوازن بين الأصالة والحداثة. فهي ترتدي الحجاب في كثير من المجتمعات، لكنها أيضًا تشارك في الحياة العامة، وتتولى مناصب عليا، وتُعتبر من أوائل النساء في التعليم والطب. في لبنان، على سبيل المثال، شغلت نيفين جميل منصب وزيرة، وليلى شاكر كانت رائدة الطيران العربية الأولى. هذه ليست استثناءات، بل انعكاس لثقافة تؤمن بالعلم والمشاركة، دون التخلي عن القيم.

الدروز في السياسة: صوت صغير بتأثير كبير

رغم قلة عددهم، يتمتع الدروز بدور سياسي ملحوظ، خاصة في سوريا ولبنان . ففي سوريا، شكلوا جزءًا من النسيج السياسي منذ عهد بشار الأسد، حيث حظيت جالية جبل الدروز ب autonomie نسبية. أما في لبنان، فقد كان للدروز دور محوري في الحرب الأهلية، وفي تشكيل التوازنات السياسية حتى اليوم.

التحديات المعاصرة

مع دخول العالم في عصر العولمة، يواجه المجتمع الدرزي تحديات جديدة: الهجرة، والاندماج، والتحولات الاجتماعية . فكثير من الشباب الدرزي يهاجر بحثًا عن مستقبل أفضل، مما يثير قلقًا داخليًا بشأن استمرارية الهوية والتراث.

لكن رغم هذه التحديات، فإن الروح الدرزية لا تزال حية، تتجلى في الاحتفالات الدينية، والمهرجانات الثقافية، وفي حرص كبار الشيوخ على نقل المعرفة للجيل الجديد.


خاتمة: دروز.. لا يُعرفون بالدين فحسب، بل بالروح

الدروز ليسوا مجرد جماعة دينية، بل هم شعبٌ له تاريخه، وفلسفته، وقيمه، وروحه. إنهم يمثلون نموذجًا فريدًا من التماسك المجتمعي، والانتماء العميق، والانفتاح الفكري. في زمن التشتت، يظلون شاهدًا على أن الهوية يمكن أن تكون قوة، لا عبء

يمكنك التعليق على هذا الموضوع تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

شكرا لك ولمرورك